ثقافة المخرج الصيني جا زانكو والإيطالي مينرفيني يتميزان في المسابقة الرسمية لمهرجان كان
بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
كناّ تعرضنا إلى جا زانكو في الدورات السابقة لمهرجان كان. مخرج صيني، رائد الجيل السادس، وواحد من أعظم السينمائيين في العالم، تجاوز صيته حدود بلده لقدرته على مواكبة تحولات الصين الاجتماعية والثقافية منذ انخراطها في المنظومة العالمية الرأسمالية. يفعل ذلك معتمدا أساليبا سينمائية طريفة ومواكبا تطوراتها التكنولوجية. يرجع جان زانكو كما يقول الفرنسيون
Pour le plus grand bonheur des cinéphiles
في المسابقة الرسمية بشريط متميّز في صناعته وكتابته. "ما اختطفه التيار" إن صحت الترجمة علما أنّ لا وجود إلى الآن لترجمة فرنسية لعنوانه.
لقطات من أعمال قديمة وأخرى حديثة يقدّمها في مونطاج يروي تاريخ بلاده الحديث، مشاهد مباشرة، شبه وثائقية لبلد اندفع بقوّة في مغامرة التصنيع الوحشي مخلّفا تقلبات اجتماعية عميقة نتجت عنها موجات سكانية عنيفة جدّا.
الطريف في الأمر هو أنّ هذه التقلبات نلمسها من خلال علاقة عاطفية بين شخصيتين، يتقمصّها ممثلاه الوفيّان، شاو تاو، زوجته في الحياة ولي جوبين. يرحل الرجل دون اعلام رفيقته التي تنطلق باحثة عنه في جولة طويلة تمتزج من خلالها الرؤيتان، الاجتماعية والحميمية، ما يضفي على الشريط طابع انساني عميق.
ثم على هذه الطبقة تنضاف طبقة أخرى وهي عودة المخرج على أعماله منذ بداياته، فتضافر التاريخ الاجتماعي مع التاريخ العاطفي وتضافر التاريخ السينمائي الخاص بالمخرج في أشكاله المختلفة مع كلّ ذلك يعطي في النهاية عملا رائعا. هنا، كما أكدنا مرات، يتم توظيف المسار الشخصي والأساليب السينمائية توظيفا كاملا ومحكما لقراءة عميقة لواقع الصين الحالي.
-صورة من فيلم "الملاعين"
يمكن كذلك ذكر "الملاعين" للمخرج الإيطالي الوثائقي روبرتو مينرفيني وهو عمله الروائي الأول. واحد من الأفلام القليلة في المسابقة الرسمية إلى حد اليوم الذي نال إعجاب العديد من النقاد، وهم محقون في ذلك. مجموعة من جنود الاتحاد يتجهون في خضم الحرب الأهلية سنة 1862 نحو مناطق غير مسكونة من المنتانا، متوجسين هجوما من الانفصاليين.
أفلام عديدة تناولت الموضوع إلاّ أن مقاربة مينرفيني اختلفت تماما على الرؤية البطولية الملحمية المنتظرة. فعوض التركيز على المشاهد الحربية (باستثناء واحدة فقط جاءت متأخرة)، انصبّ اهتمامه على لحظات الانتظار والريبة، ففتح بذلك المجال واسعا أمام المجهول. المقاربة غير معهودة تماما لما قد تثيره من خيبة لدى المشاهد وانقلاب تام في القراءة التاريخية.
زد على ذلك اهتمام المخرج بعدد كبير من الشخصيات المختلفة التي ترى كلّ واحدة منها المسألة من منظورها الخاص. هيمنة لحظات الصمت والحوارات العادية جدّا فككت الكليشيهات المرتبطة بالمرحلة التاريخية وجعلت المشاهد يدرك جوانب أخرى من تاريخ الولايات الأمريكية تضيف إنارة جديدة لما يحدث اليوم.